إنَّ من أسماء الله تعالى اسم "العَفُوّ" ، وهو مشتق من العَفْو، وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه ، يقول تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيّئَـٰتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُون }[الشورى25] .
والله عز وجل يحب أن يُسأل، وأفضل ما يَسألُه العبدُ العفوَ والعافيةَ والمعافاةَ ، قالت أمّنا عائشة : يا رسول الله أرأيتَ إن وافقت ليلة القدر ما أدعو ؟ فقال : « تقولين : اللهم إنك عَفُوٌّ تحبُّ العفو فاعفُ عني » .
أمّا العافية فهي أن يعافيه الله تعالى من كل سقم أو بلية ، وهي الصحة ضد المرض في الدنيا ، ويدخل في معناها عفو الله تعالى عن الذنوب ، وأما المعافاة فهي أن يستغني عن الناس ويستغني عنه الناس ، وأن يعفو عنهم ويعفوا عنه ، ولقد أرشدنا نبينا إلى سؤال الله تعالى العفو والعافية والمعافاة ، فعن العباس أنه قال : يا رسول الله ، علمني شيئًا أسألُهُ الله ، فقال له: « سل ِاللهَ العافية » ، قال العباس : فمكثت أيامًا ثم جئت فقلت : يا رسول الله ، علمني شيئا أسألُهُ الله ، فقال : « يا عباس ، يا عم رسول الله : سلِ اللهَ العافيةَ في الدنيا والآخرة » .
وعن أبي بكر أن رسول الله قال: « سلوا اللهَ المعافاةَ ، فإنه لم يؤتَ أحدٌ بعد اليقين خيرًا من المعافاة » .
واعلموا - إخوتي - أن من أفضل الأدعية التي يُدعىٰ بها الله تعالى سؤالُه المعافاة ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما من دعوةٍ يدعو بها العبدُ أفضل من : اللهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة » .
ومن الناس من يبتليه الله تعالى ببلاء فلا يدعو الله أن يكشفه ويرفعه عنه ظنًا منه أنَّ ترك الدعاء من الصبر ، وهذا خطأ ، فقد عاد النبي رجلاً قد جهد حتى صار مثل فرخ ، فقال له : « أما كنت تدعو؟ أما كنت تسأل ربك العافية؟ » فقال : كنت أقولاللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا ، فقال : « سبحان الله ، إنك لا تطيقه ، أفلا كنت تقول : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟! » .
والله تعالى يحب من عباده أن يتصفوا بصفاته ، فهو رفيق يحب الرفق ، رحيم يحب الرحمة ، عفو يحب العفو ، ولذلك جاء في وصف النبي أنه لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا ولا صخابًا في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئةِ السيئةَ ، ولكن يعفو ويصفح ، ولذلك عفا عن أهل مكة بعد أن فتحها الله تعالى له ، على الرغم مما فعلوه به وبأصحابه ، وهو القائل : « ما زادَ اللهُ رجلاً بعفو إلا عزَّا » .
والعفو من صفات المؤمنين المتقين ، يقول تعالى : { وَٱلْكَـٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَـٰفِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّٱلْمُحْسِنِينَ }[آل عمران134] ، ويقول تعالى : { وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ }[الشورى40] .
يقول الحسن البصري : ( إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : ليقم من كان أجره على الله ، فلا يقوم إلا من عفا ) .
ولكن .. من الذي ينال هذا الأجر العظيم بعفوه عن الناس؟
يقول تعالى : { وَمَايُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }[فصلت35] .
وإن أحق من عفوتَ عنهم أهلُكَ وزوجُكَ وأبناؤُكَ ؛ لأنهم بشر ، والبشر قد تزل يده أو لسانه ، فإن كنت حليمًا رحيمًا ترحم من أخطأ وتعفو لوجه الله فإنه يُرجى لك الخير، وكم من كربات فرجها الله عن أُناس عاملوا الآخرين باليسر وبالغض عن الإساءة ، فمن عفا عن أقرب الناس إليه وتجاوز عن زلته عفا الله عنه لذلك ، وكما لغيرك أخطاء فلك أنت أيضًا أخطاء ، فمن عفا وأصلح عفا الله عنه وغفر له ، ولذلك عندما قذف مسطح بن أثاثة أمَّنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها في حادثة الإفك وهو ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه شيئًا ، وكان من فقراء المهاجرين ، فنزل قوله تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِأُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ٱلْقُرْبَىٰوَٱلْمَسَـٰكِينَ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلْيَعْفُواْوَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌرَّحِيمٌ }[النور22] ، فقرأها النبي على أبي بكر فقال رضي الله عنه: بلى والله ، إني لأحب أن يغفر الله لي ، فأعاد ما كان ينفقه على مسطح الذي قذف ابنته واتهمها بالزنا ، وقال : والله لا أنزِعها منهُ أبدًا .
جاء في سنن أبي داود عن ابن عمر أن النبي لم يكن يدع هذه الكلمات حين يصبح وحين يمسي : « اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي » ، فسؤال الله تعالى العافية من السنة المطهرة .
ومن السنة المطهرة أيضًا أن يَحْمَدَ اللهَ تعالى على النعمةِ التي هو فيها ، فقد جاء عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من رأى مبتلى فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا ، لم يصبه ذلك البلاء » . فمن المشروع إذًا أن تسأل الله تعالى العافية صباح مساء ، وأن تحمد الله تعالى على العافية إذا رأيت مبتلى في بدنه وماله أو في أشد من ذلك وهو الدين والعياذ بالله ، وكم يمر الناس على أهل المعاصي والذنوب ولا يحمدون الله على العافية ، فهذا الذي يتعامل بالربا أو يأخذ الرشوة أو يبيع المحرمات أو يتعامل بها - هؤلاء وغيرهم كثير مبتلون ، نحمد اللهَ تعالى أن عافانا مما ابتلاهم به ، ونسأله تعالى العافية .
فاتقوا الله عباد الله ، وسلوا الله تعالى العافية ، واعفوا عمّن أساء إليكم ابتغاء وجه الله تعالى ، وإياكم أن يستزلكم الشيطان فيجعلكم تقطعون أرحامكم في لحظة غضب، فتقع بينكم العداوة والبغضاء ، وماذا عليك - يا عبد الله - لو أن أحدًا أساء إليك بكلمة في مجلس فتجاوزت عنه وعفوت ؟! وقد قال الصادق المصدوق : « وما زادَ اللهُ رجلاً بعفوٍ إلا عِزّا » .
اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا
اللهُمَّ إنَّا نَسألُكَ العافيةَ في الدنيا والآخرة
الخلاصة:
العفو (ترك العقوبة) ، والعافية (السلامة) ، والمعافاة (الاستغناء) ..
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين